تعهدت إدارة الرئيس أوباما بـ"مستوى غير مسبوق من الانفتاح الحكومي"، وهو ما يؤكده البيت الأبيض في موقعه الإلكتروني، الذي يقول إن للمواطنين الحق في معرفة ما تقوم به حكومتهم، مضيفاً أن المحاسبة تزيد من فعالية الحكومة، والحقيقة أن إدارة أوباما التزمت بمبدأي الانفتاح والمحاسبة، كما يدل على ذلك قانون حرية الوصول إلى المعلومات، ولكن مع الأسف ظلت هذه المبادئ العامة مقتصرة على جوانب معينة من العمل الحكومي ولم تمتد إلى الأنشطة الاستخبارية التي يتعين معرفة البعض منها على الأقل، حيث مازال يلفها الغموض ويحيط بها التعتيم. فقد هددت الإدارة مؤخراً برفض التصديق على مشروع قانون خاص بالأنشطة الاستخبارية، وهو التشريع السنوي الذي يمول وكالة الاستخبارات المركزية، والسبب - حسب الإدارة - هو انطواء المقترح على مطلب إحاطة كامل أعضاء لجان الكونجرس المشرفة على الاستخبارات ببعض البرامج السرية بدل الاقتصار على "نخبة الثمانية" التي تشمل زعماء الحزبين في مجلسي الكونجرس والأعضاء البارزين في اللجان، إذ يبدو أن الإدارة تريد الحفاظ على سلطة تحديد من يحق له الاطلاع على المعلومات السرية داخل الكونجرس وحصرها ضمن دائرة ضيقة. والمفارقة أن التهديد برفض التصديق على مشروع القانون وما يعنيه ذلك من دعوة مبطنة إلى التزام الصمت والوثوق في السلطة التنفيذية يأتي في وقت بدأت تتسرب فيه معلومات حول بعض الأسرار وربما التصرفات المنافية للقانون التي قامت بها إدارة بوش في إطار ردة فعلها عقب هجمات 11 سبتمبر. فقد سمعنا في الشهر الجاري بعدما تسربت بعض المعلومات أن إدارة بوش رفضت طويلًا كشف برنامج لاغتيال أعضاء تنظيم "القاعدة" حتى لنخبة الثمانية، وبفضل التقرير الذي كتبه المفتش العام المكلف بمراقبة الوكالات الفيدرالية عرفنا أيضاً في الأسبوع الماضي أن برنامج وكالة الأمن الوطني الخاص بالتنصت على المكالمات الهاتفية دون إذن قضائي لم يساهم في الكشف عن الإرهابيين خلافاً لما ذهب إليه مؤيدوه، وهو برنامج المراقبة نفسه الذي كان معمولاً به لسنوات عديدة في انتهاك واضح للقانون الفيدرالي الذي أقره الكونجرس بدل أن يدقق في تفاصيله، ولو بقي البرنامج طي الكتمان كما كان يريد ذلك بوش لما عرفنا أن قوانيننا وحرياتنا كانت تتعرض للانتهاك دون أدنى فائدة تجنى من ذلك. وبالإضافة إلى ذلك، كشف التقرير الأخير الذي أعده المفتش العام للوكالات الفيدرالية برنامجاً آخر لوكالة الأمن الوطني يشمل مراقبة البريد الإلكتروني داخل الولايات المتحدة، وهو برنامج مثير للجدل؛ لأنه لا أحد يعرف الكثير عنه وعما إذا كان ينتهك البند الرابع من الدستور الأميركي، أو يخرق القانون، بحيث لم تؤخذ مخاوف المشككين في الضمانات التي سبق أن قدمها بوش على محمل الجد. وإذا كنا نسمع الكثير عن احتمال قيام أوباما بفتح تحقيق حول هذا البرنامج، أو ذاك، لاسيما تلك المرتبطة بالتعذيب، فماذا عن الانتهاكات التي لا نعرف عنها شيئاً ولم تظهر في تقرير المراقب العام؟ لذا أعتقد أن الوقت قد حان كي ينشئ الكونجرس لجنة خاصة لها صلاحية استدعاء الشهود من أجل مساءلة الأنشطة الاستخبارية التي قيل إنها تندرج في جهود مكافحة الإرهاب. بل إن ما نحتاجه في الحقيقة أكثر من ذلك بكثير، إذ لا بد من إعادة التذكير بنظرية الحكومة الديمقراطية وما تعنيه على وجه الدقة، والتي تقول لنا إن حكومة سرية هي دائماً حكومة غير ديمقراطية، ولئن كان من غير الممكن إنكار دور السرية في حجب المعلومات الخطيرة عن العدو ومنعه من الاطلاع على أمور يفترض أنها ستضر به، ولكن في حالة رصد المكالمات الهاتفية والبريد الإلكتروني مَن مِن الإرهابيين مازال غبياً إلى درجة استخدام وسائل الاتصال تلك على رغم معرفته بأنها مراقبة. والحقيقة أن السرية عملياً لها أهداف أخرى عدا تلك التي يُروج لها وتتمثل في حماية الوكالات الحكومية والمسؤولين المنتخبين من تحمل مسؤولية تصرفاتهم التي قد تكون متهورة، أو لاأخلاقية، وطالما أن الرأي العام لا يستطيع محاسبة المنتخبين عن البرامج السرية التي يوافقون عليها فإن الحكومة تكون غير ديمقراطية، وحتى عندما يتم اطلاع الكونجرس على تلك البرامج، أو جزء منها فإنها تخضع لتدقيق ضعيف لا يرقى للمراقبة التي يمارسها الرأي العام. وأكثر من ذلك يفتقد أعضاء الكونجرس الكثير من السلطة عندما يُحظر عليهم التحدث عما يعرفونه، وحتى إذا حاولوا الاعتراض من خلال وقف التمويل يبقى السلاح الأهم الذي يمكنهم الاعتماد عليه والمتمثل في العلنية بعيداً عن أيديهم، وهو ما يفسر لماذا يلجأ بعض المعارضين لتلك البرامج داخل الكونجرس إلى تسريب معلومات دون الإفصاح عن هوياتهم. ولا ننسى أن مطلب الخروج إلى العلن لتبرير برنامج ما، أو نشاط استخباري معين يفرض على المدافعين عنه التفكير ملياً ودراسة جوانب النقص والفرضيات الخاطئة، بحيث يساهم ذلك كله في تخليص هذا النشاط من كافة الشوائب وتجنب اتخاذ القرارات المتهورة. ولكن بعض الأوساط المرتبطة بالأمن القومي تعتبر أن أي نقاش حول الأنشطة الاستخبارية يدخل في إطار الصراعات الحزبية، وهو ما يعوق الطريق أمام من يريد حمايتنا، والحال أن الدستور إنما قسم بوضوح السلطة في مجال الأمن القومي بين الإدارة والكونجرس ومنح الرأي العام حق المعرفة والاطلاع حتى يفتح المجال أمام النقاش والمعارضة باعتبارها مكونات أساسية لأي ديمقراطية سليمة. بنيامين فريدمان باحث في دراسات الدفاع والأمن الداخلي بمعهد "كاتو" الأميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"